الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال أبو حاتم: وزعموا أن العمارة اتصلت ببلادهم، فأرادوا أن يسيروا على رواحلهم في الفيافي، فدعوا على أنفسهم، فهو قوله سبحانه: {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُم}.وكان شيخنا أبو علي يذهب إلى أن أصل بين أنها مصدر بان يبين وبينا، ثم استعملت ظرفا اتساعا وتجوزا، كمقدم الحاج، وخلافة فلان. قال. ثم استعملت واصلة بين الشيئين، وإن كانت في الأصل فاصلة. وذلك لأن جهتيها وَصَلَتَا ما يجاورهما بها، فصارت واصلة بين الشيئين. هذا معنى قوله، وجماع مراده فيه. وعليه قراءة من قرأ: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنُكُم} بالرفع. أي: وصلُكم. وأجاز أبو الحسن في قال تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُم} بالفتح أن يكون في موضع رفع، إلا أن فتحة الظرف لزمته، والمراد الرفع. ويمكن عندي أن يكون قوله:
المراد فيه وأمسِ، إلا أنه أدخل اللام عليه، فعرفه بها، وتركه على ما كان عليه من كسره المعتاد فيه، وإن كان قد أعربه في المعنى بإبراز لام التعريف إلى لفظه الذي كان إنما يبنى لتضمنها. وإن حملته على زيادة لام التعريف مثلها في الآن فمذهب آخر. ونظر بعض المولدين إلى حديث بين فقال: فالبين الأول الوصل، والثاني القطيعة والهجر، والعين الأولى هذا الناظر، والثانية الرقيب أي: رأت فيه ما أحبت.من ذلك قراءة الزهري: {وَلَقَدْ صَدَقَ} مخففة {عَلَيْهِمْ إِبْلِيسَ} نصب {ظَنُّهُ} رفع {إِلَّا لِيُعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ}.وقال أبو حاتم: روى عبيد بن عقيل عن أبي الورقاء، قال: سمعت أبي الهجهاج وكان فصيحا- يقرأ: {إبْلِيسَ} بالنصب {ظَنُّهُ} رفع.قال أبو الفتح: معنى هذه القراءة أن إبليس كان سَوَّلَ له ظنُّه شيئا فيهم، فصَدَقه ظنُّه فيما كان عقد عليهم معهم من ذلك الشيء.وأما قراءة العامة: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ}- رفع- {ظَنَّهُ}- نصب- فإنه كان قدر فيهم شيئا فبلغه منهم، فصدق ما كان أودعه طنه في معناه. فالمعنيان من بعد متراجعان إلى موضع واحد؛ لأنه قدر تقديرا فوقع ما كان من تقديره فيهم. وعَلَى متعلقة ب {صَدَقَ} كقولك: صَدَقْتُ عليْكَ فِيمَا ظَنَنْتُه بك، ولا تكون متعلقة بالظن، لاستحالة جواز تقدم شيء من الصلة على الموصول.وذهب الفراء إلى أنه على معنى في ظنه، وهذا تَمَحُّل للإعراب، وتَحَرُّفٌ عن المعنى. ألا ترى أن من رفع {ظنه} فإنما جعله فاعلا؟ فكذلك إذا نصبه جعله مفعولا على ما مضى. كذلك أيضا من شدد، فقال: {صدّق} فنصب الظن على أنه مفعول به.ومن ذلك قراءة الحسن: {فُزِعَ} بالزاي خفيفة، وبالعين.وقرأ: {فَرَّغَ} بفتح الفاء والراء، وبالغين الحسن- بخلاف- وقتادة وأبو المتوكل.وقرأ: {فرغ} بالراء خفيفة، وبالغين، والفاء مضمومة الحسن وقتادة، بخلاف عنهما.وقد رُوي عن الحسن: {فُرِّغَ} بضم الفاء، والراء مشددة، وبالغين.وقال أبو عمرو الدوري: بلغني عن عيسى بن عمر أنه كان يقرأ: {حَتَّى إِذَا افْرُنْقِعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ}.قال أبو الفتح: المعنى في جميع ذلك حتى إذا كُشِفَ عن قلوبهم.فأما {فُزِعَ} بالفاء، والزاي خفيفة فمرفوعه حرف الجر وما جره، كقولنا: سِيرَ عن البلد، وَانْصُرِفَ عن كذا إلى كذا، وقد شرحنا نحوًا من ذلك في القصص.وكذلك {فُرِغَ} بالفاء، والراء خفيفة، وبالغين.فأما {فَزَّعَ} و {فَرَّغَ} ففاعلاهما مضمران: إن شئت كان اسمَ الله تعالى، أي: كشفَ اللهُ عن قلوبهم. وإن شئت كان ما هناك من الحال، أي: فَرَّغَ أو فَزَّعَ حاضر الحال عن قلوبهم، وإضمار الفاعل لدلالة الحال عليه كثير واسع، منه ما حكاه سيبويه من قولهم: إذا كان غدًا فأتني، وكذلك قول الشاعر: أي: إن كان لا يرضيك ما جرى، أو ما الحال عليه.قال أبو حاتم: قال يعقوب: روى أيوب السختياني عن الحسن: {فُرِغَ} ضم الفاء، وكسر الراء وخففها، وأعجم الغين، فقيل للحسن: إنهم يقولون: {فُرِّغَ} مثقلة. فقال الحسن: لا، إنها عربية. قال: ولا أظن الثقات رووها عن الحسن على وجوه إلا لصعوبة المعنى عليه. واختلفت ألفاظه، وقال فيها أقوالا مختلفة، يعني أبو حاتم اجتماع معنى ف ز ع مع معنى ف ر غ في أن الفزع: قلق ومفارقة للموضع المقلوق عليه، والفراغ: إخلاء الموضع، فهما من حيث ترى ملتقيان.وكذلك معنى {افْرُنْقِعَ} يقال: افْرَنْقَعَ القوم عن الشيء، أي: تفرقوا عنه.ومما يحكى في ذلك أن أبا علقمة النحوي ثار به المُرَارُ، فاجتمع الناس عليه، فلما أفاق قال: ما لكم قد تكأكأتم على كتكأكئكم على ذي جِنّة؟ افْرَنْقِعُوا عني. قال: فقال بعض الحاضرين: إن شيطانه يتكلم بالهندية.ومن ذلك قراءة سعيد بن جيبر: {بَلْ مَكَرُّ الليلِ والنَّهارِ} وهي قراءة أبي رزين أيضا.وقرأ: {بَلْ مَكْرٌ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} قتادة.قال أبو حاتم: وقرأ راشد الذي كان نظر في مصاحف الحجاج: {بَلْ مَكَرَّ} بالنصب.قال أبو الفتح: أما المَكَرّ والكرور، أي: اختلاف الأوقات، فمن رفعه فعلى وجهين:أحدهما: بفعل مضمر دل عليه قوله: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ}8، فقالوا في الجواب: بل صدنا مَكَرُّ الليلِ والنهارِ، أي: كرورهما.والآخر: أن يكون مرفوعا بالابتداء، أي: مَكَرُّ الليل والنهار صَدَّنا.فإن قيل: أفهذا تراجع عن قولهم لهم: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}؟ قيل: لا، ليس بانصراف عن التظلم منهم، وذلك أنه وصله بقوله: {إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ} أي: فكرور الليل والنهار علينا- على إغوائكم إيانا- هو الذي أصارنا إلى النار. وهذا كقول الرجل لصاحبه: أهلكني والله! فيقول وكيف ذلك؟ فيقول: في جوابه: مضى أكثر النهار وأنت تضربني؛ فيفسره بتقضي الزمان على إساءته إليه.فإن شئت جعلت {إذ تأمروننا} متعلقة بنفس الكرور، أي: كرورهما في هذا الوقت وإن شئت جعلته حالا من الكرور، أي: كرورهما كائنا في هذا الوقت؛ فنجعل طرف النهار حالا من الحدث، كما تجعله خبرا عنه في نحو قولك: قيامك يومَ الجمعة؛ إذ كانت الحال ضربا من الخبر. ومثله من الحال قولك: عجبت من قيامك بومَ الجمعة، تعلق الظرف بمحذوف، أي من قيامك كائنا في يوم الجمعة.وعلى نحو منه قراءة قتادة: {بَلْ مَكْرٌ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} فالظرف هنا صفة للحدث، أي: مكر كائن في الليل والنهار. وإن شئت علقتهما بنفس {مكر} كقولك: عجبتُ لَكَ من ضربٍ زيدًا، وكقول الله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ}.وأما {مَكَرَّ} بالنصب فعلى الظرف، كقولك: زرتُكَ خفوقَ النجمِ، وصياحَ الدجاجِ وهو معلق بفعل محذوف، أي: صدَدْتُمُونا في هذه الأوقات على هذه الأحوال.فإن قيل: فما معنى دخول {بل} هنا وإنما هو جواب الاستفهام؟ وأنت لا تقول لمن قال لك: أزيدٌ عندك؟: بل هو عندي وإنما تقول: نعم، أولا. قيل: الكلام محمول على معناه، وذلك أن قولهم: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ} معناه الإنكار له، والرد عليهم في قول المستضعفين لهم: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} فكأنهم قالوا لهم في الجواب: ما صددناكم، فردوه ثانيا عليهم، فقالوا: بل صدنا تصرم الزمان علينا وأنتم تأمروننا أن نكفر بالله. وقد كثر عنهم تأول معنى النفي وإن لم يكن ظاهرا إلى بادي اللفظ، قال الله تعالى: {قُل إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} أي: ما حرم إلا الفواحش، وعليه بيت الفرزدق: أي: ما يدافع عن أحسابهم إلا أنا. ولذلك عندنا ما فصل الضمير، فقال: أنا، وأنت لا تقول: يقوم أنا، ولا نقعد نحن. ولولا ما ذكرنا من إرادة النفي لقبُح الفصل، وأنشدَنا أبو علي: أي: ما أحد أحرزه هذا من الموت، ونظائره كثيرة.وإن شئت علقت إذ بمحذوف، وجعلته خبرا عن {مَكَرَّ} أي: كرورهما في هذا الوقت الذي تأمروننا فيه أن نكفر بالله، والمعنى في الجميع راجع إلى عصب الذنب بهم، ونسب الضلال إليهم.ومن ذلك قراءة أبي حيوة: {مِنْ كُتُبٍ يَدَّرِسُونَهَا}6، بتشديد الدال مفتوحة، وبكسر الراء.قال أبو الفتح: هذا يفتعلون من الدرس، وهو أقوى معنى من {يدرسونها} وذلك أن افتعل لزيادة التاء فيه أقوى معنى من فعل. ألا ترى إلى قول الله تعالى: {أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ}7؟ فهو أبلغ معنى من قادر، وهو أشبه بما تقدمه من ذكر الأخذ والعزة. نعم، وفيه أيضا معنى الكثرة؛ لأنه في معنى يتدارسونها. وقد ذكرنا فيما مضى قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} وأن {اكْتَسَبَتْ} أقوى من {كَسَبَتْ} وأن أصل ذلك من زيادة معنى فَعَّلَ على معنى فَعَلَ، لتضعيف العين، فاعرفه. ومثل {يَدَّرِسُونَهَا} قولهم: قرأتُ القرآنَ، وَاقْتَرَأْنُهُ قال: ومن ذلك قراءة طلحة بن مصرف: {وَأَخِذٌ مِنْ مَكَانٍ قَرِيب}3، منصوبة الألف، منونة.قال أبو الفتح: لك في رفعه ضربان: إن شئت رفعته بفعل مضمر يدل عليه قوله: {فَلا فَوْتَ} أي: وأحاط بهم أخذٌ من مكان قريب. وذكر القرب، لأنه أحجى بتحصيلهم، وإحاطته بهم.وإن شئت رفعته بالابتداء، وخبره محذوف، أي: وهناك أخذ لهم، وإحاطة بهم. ودل على هذا الخبر ما دل على الفعل في القول الأول.ويُسأل من قراءة العامة: {وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} علام عطف هذا الفعل؟ وينبغي أن يكون معطوفا على قوله تعالى: {فَزِعُوا} وهو بالواو، لأنه لا يراد: ولو ترى وقت فزعهم وأخذهم، وإنما المراد- والله أعلم: ولو ترى إذ فزعوا فلم يفوتوا، وأخذوا. فعطف {أُخِذُوا} على ما فيه الفاء المُعَلِّقة الأول بالآخر على وجه التسبيب له عنه، وإذا كان معطوفا على ما فيه الفاء فكأن فاء فيئول الحديث إلى أنه كأنه قال: ولو ترى إذ فزعوا فأخذوا، هذا إذا كانت فيه فاء، وأما وفيه الواو فلا يحسن عطفه على {فزعوا} بل يكون معطوفا على ما فيه الفاء.وقال أبو حاتم: لا أعرف الرفع في {أَخْذٌ} ولا يجوز إلا بالحيل والتفسير البعيد، كذا زعم.ومن ذلك قراءة مجاهد: {وَيُقْذَفُونَ} بضم الياء، وفتح الذال.قال أبو الفتح: بيان هذا: وقالوا آمنا به وأنى لهم التَّنَاوُشُ، أي: التناول للإيمان من مكان بعيد، وقد كفروا به من قبل؟ والوقف على قوله: {مِنْ قَبْل} أي: من أين لهم تناوله الآن وقد كفروا به من قبل؟ ثم قال سبحانه: {وهم وَيُقْذَفُونَ بِالْغَيْبِ} أي يرمون بالغيب؛ تتبُّعًا لهم بقبح أفعالهم، وسوء منقلَبهم. اهـ.
|